غروب الأدارسة في المغرب الأقصى
في تخوم السنوات التي تصل شطري القرن الثاني الهجري تفككت وحدةالمغرب العربي ( تونس ـ الجزائر ـ مراكش ) وبدلا من خضوعه للدول الإسلامية الجامعة سواء دولة الأمويين أو دولة العباسية .. بدلا من هذا انقسم المغربالإسلامي على نفسه إلى قوى ثلاث تحكمها زعامات ثلاث .. الرستميون في تيهارت (الجزائر ) والأغالبة في تونس ، والأدارسة في المغرب الأقصى .
وليس من السهل تلمس الأسباب الحقيقية لهذا الانفصال سوى أنه مطية لتحقيق أغراض شخصية ومذهبية .
بيد أن كثيرا من المؤرخين لا يفوتهم البحث عن أسباب لكل الظواهر ،حتى ولو كانت الظاهرة مجردة حادث مفتعل يخلف نتائج مضادة ويكون حصاده وبالا علىالأمة التي خضعت له .
وليس من شك في أن الحياة ليست سلبا كلها .. وبالتالي ليست إيجابا كلها .. فنحن لن نعدم أن نجد في الدولة الحضارية الجماعية سلبيات ..كذلك لن نعدم أن نجد في كل الحركات الانفصالية التي تمثل ـ في رأينا ـ بوادر غروب للحضارة الجامعة .. لن نعدم أن نجد فيها إيجابيات ، بيد أنه لا السلبيات تصلحللحكم على الدولة الجامعة بالموت وبالانقضاض عليها من داخلها ، ولا الإيجابيات تصلح كمبرر للوجود ..
إذا قيست هذه الإيجابيات الجزئية بما تخلفه حركات الانشقاق منهدم في روح الحضارة ..ومن صراع يجهد الدولة الجامعة والبلد المنفصل معا .
وكان إدريس بن عبد الله بن الحسين هو ( قائد حركة الانفصال عندولة العباسيين في المغرب الأقصى )
وكان إدريس هذا قد ساهم مع إخوته ومع العلويين في إشعال ثورة الحجازضد العباسيين ، لكن الثورة فشلت ، وأخمدت فهرب إدريس إلى بلاد المغرب ، وهناك استطاع أن يجمع حوله بعض قبائل البربر ، وأن يكون له إمارة مستقلة دامت حوالي قرنين من الزمان .. وكان ذلك في مطلع القرن الثالث الهجري .. أي أن حركة إدريس كانت متأخرة عن حركتي الرستميين في الجزائر والأغالبة في تونس .
وقد نجح الخليفة العباسي هارون الرشيد في أن يدس على إدريس من يدسله السم في العسل ، وكان الرشيد يضحك ويتندر بقوله " إن لله جنودا من عسل "لأنه سمه بواسطة العسل .
وقد ترك إدريس زوجته حاملا فولدت بعد موته ذكرا التف البربر حوله وبايعوه باسم إدريس الثاني . وفي عهد إدريس الثاني هذا حاول العباسيون بواسطة ولاء الأغالبة الموجودين في تونس لهم ، حاولوا القضاء على الأدارسة .. لكنهم فشلوا .. وركن العباسيون إلى السكوت .. واستمرت الدولة الإدريسية ـ كما ذكرنا ـ قرنين من الزمان .
وكان من أعظم حكام الأدارسة يحيى الرابع بن إدريس الذي حكم ثمانيعشرة سنة ( 292 ـ 310 هـ ) وازدهر المغرب الأقصى في حكمه أيما ازدهار .
كما بلغت مدينة فاس عاصمة الأدارسة ذروة مجدها ، وأصبحت مركزا هامامن مراكز الحضارة الإسلامية في أنحاء المغرب العربي . وأيضا قد ساعد الأدارسة على رسوخ قدم الإسلام في بلد المغرب بين البربر ، وانتشر الإسلام بواسطة البربر فيأفريقيا الغربية .
وكانت جامعة القرويين التي قامت بدور بارز في نشر وإنماء الثقافةالإسلامية من أهم آثار الأدارسة في المغرب الإسلامي ، وقد قامت في المغرب بما قامبه الأزهر ـ أو على نحو قريب منه ـ في المشرق العربي .
لقد كان الأدارسة أول دولة لها هذا الطابع في التاريخ وفيما نعتقد لم تكن دولتهم شيعية إلا بمقدار حب آل البيت والولاء لهم .. وهي صفة يشترك فيها السنة والشيعة معا .. فحب آل البيت من حب الرسول عليه الصلاة والسلام ما كانوا قائمين على كتاب الله وسنة رسوله .. أما إذا خالف أحدهم كتاب الله وسنة رسوله... فإنه يقف من الله موقف أي إنسان " يا فاطمة بنت محمد اعملي فإني لاأغني عنك من الله شيئا " هكذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام !! .
ولهذا الوضوح في دولة الأدارسة أحبها أهل السنة وانتصرت بهم ، وكانت القبائل البربرية السنية في المغرب حاميتهم وعماد دولتهم .
ولهذا السبب عاشت دولة الأدارسة نحوا من قرنين من الزمان وأدت دوراحضاريا لا بأس به في المغرب الإسلامي .
بيد أنها كأية حركة انفصالية كانت تفتقد مبرر الوجود والبقاء ..فظلت على الرغم من " قرنيها " مجرد حركة انفصالية . ولم تستطع ـ لا جغرافيا ولا فكريا ـ أن تزيد على حدودها التي ضمها إدريس الأول شيئا ذا بال .
وقد وقعت كذلك بين عديد من القوى الراغبة في الابتلاع .. وقعتبين الأمويين في الأندلس ، الذين كثيرا ما سددوا إليها الطعنات .. وبين مصرالتي انتقلت إلى الفاطميين منذ سنة 359 هـ .. فوجهوا إلى الأدارسة طعنات كذلك على الرغم من القرابة المذهبية ..
ولا يمكن إغفال ضربات القبائل البربرية الراغبة في حكم نفسها ، لاسيما قبائل زناتة وهوارة
وقد أدى ذلك كله على غروب شمس الأدارسة عام 375 هـ .
فانتهت إحدى الحركات الانفصالية في تاريخنا الإسلامي .. لأنالسقوط ـ وإن كثرت المقويات والمساعدات ـ هو مصير كل الحركات الانفصالية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
سقوط صقلية الإسلامية
بعد قرنين من فتح المسلمين لصقلية على يد الفقيه أسد بن الفرات سنة 212 هـ كان كل شيء يؤذن بالأفول .. كانت الأندلس تعيش حالة ملوك الطوائف الذين تداعوا تداعي البيت المفكك أمام زحف المرابطين بقيادة رجلهم المؤمن رجل العقيدة والدولة يوسف بن تاشفين .
وكانت الجزائر وتونس تعانيان من هجمة القبائل العربية الهمجية الزاحفة تدمر كل شيء دون تعقل .
وكانت مصر قد ذهبت نضارتها على يد الفاطميين الذين كانوا قد فقدوا نضارتهم كذلك ، بل كانت مصر التي يحكمها الخليفة المستنصر تعاني من مجاعات غريبة لعلها لم تحدث في تاريخها بالمرة لدرجة أن الناس أكلوا بعضهم بعضا وبيعت لحوم الكلاب في الأسواق .
كان هذا هو الجو المحيط بصقلية الأغلبية الإسلامية .. الجو الذي يطلق عليه مؤرخونا عبارة " الحالة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري"!!!
لكن كل هذا كان أقل من أن يقتطع غصن صقلية من شجرة الإسلام إلى اليوم .. لقد كان ثمة سبب آخر أشد وأقوى .
كان هناك الهزيمة الداخلية التي هي الباب الوحيد التي تدلف منه كل الهزائم الواردة .. كان هناك لصوص المناصب وهواة الزعامات والمتمسحون في أمجادهم العائلية .
كانت صقلية قد فقدت أمثال فاتحها العظيم أسد بن الفرات القاضيوالفقيه والقائد والشهيد الذي استحق عن جدارة بطولة فتح صقلية .
وحل جيل جديد تتنازعه التقاليد الوثنية النورمانية وينظر بإعجاب إلى الجنوب الأوروبي ، وإلى تقاليد العدو الواقف بالباب .. وعندما حلت الهزيمة الداخلية على هذا النحو .. كان من السهل أن يدخل روجار بجيوشه ، وأن تتحول صقلية إلى اليوم قلعة صليبية تكيد للإسلام .
كان روجار قائد النورمان المستوطنين بالغرب الفرنسي والإيطالي يترقب فرصة الوثوب على الجزائر وتونس .. فضلا عن صقلية ، وكما هي العادة في تاريخنا لم يستطع روجار أن يدخل إلى صقلية إلا من خلال أهلها ، من خلال الهزيمة الداخلية.. فمبدأ الجهاد قد وقانا شر الأعداء الخارجيين ، أما حين تتفتت العقيدة وتنحل إرادة القتال يبدأ العدو في الولوج ممتطيا أحد الأصنام الباحثين عن الملك تحت أيشعار .
وفي معركة من المعارك الداخلية بين لصوص الحكم هزم أحدهم ..ويسمى ابن الثمنة .. ولم يجد هذا الرجل غضاضة في أن يطلب الوصول إلى الحكم عن طريق الاستعانة بالنورمان المتحينين للفرصة فذهب إليهم يستعين بهم ويطلعهم على خفايا الجزيرة ، ويمدهم بالعون إذا هم حاولوا الاستيلاء عليها .
وبدأ من يومها الغزو النورماني لصقلية .. ولم تكن القوى الإسلامية المفككة المحيطة بصقلية بقادرة قدرة حقيقية على عمل شيء .. بالرغم من أن تونس قد حاولت تقديم المساعدة .
وتساقطت كأوراق الشجر في الخريف مدن الإسلام الزاهرة في هذه الجزيرةالتي قدمت للإسلام والحضارة الإسلامية عديدا من الأبطال في كل المجالات .
سقطت " مسنة " .. وسقطت " بلرم " العاصمة . " وماذر" .
وبعد جهاد طويل من أحد شباب الإسلام الذين يظهرون كوهجة الشمس قبلالمغيب " ابن عباد " سقطت سرقوسة ، ثم خرجت ولحقت بها ضريانة فنوطس ، وسجلت سنة 484 هـ 1091 م السقوط الكبير لصقلية في يد عصابات النورمان..
وكما تمثلت الهزيمة الأولى ـ في بداية الهزيمة ـ .. كما قدمتهاـ في شخص ابن الثمنة ـ كذلك تمثلت الهزيمة هنا في صورتين :
في صورة ابن حمود حاكم قصريانة إحدى المدن الصقلية التي سقطت وكانهذا الرجل يزعم النسب إلى العلويين .. لدرجة جعلت أحد المؤرخين الأوروبيين يصفه( بالعلوي الدنيء الرخيص ) مسلما بقضية علويته ، ولربما كانت صحيحة ، فكثير مندعاة العلوية كانوا خونة !!
وقد تواطأ الرجل مع روجار لدرجة جلبت عليه سخط المسلمين في الجزيرةكلها.
ولم ينته أمر هذا الخائن لأمته إلا بالنهاية الطبيعية ، إلا أنه حرصا على مزيد من الجاه لدى روجار أعلن نصرانيته وطلب من روجار أن ينقله إلى إيطاليا ليقضي بقية حياته هادئا آمنا ، وذهب الخائن ، ومع ذهاب الإسلام من أعماقهوأعماق أمثاله من المنهارين ذهبت صقلية .. والصورة الثانية .. تقدمها لناصفحات التاريخ في شكل رسالة بعث بها المسمى الخليفة الفاطمي في مصر إلى روجار تحمل تشفيا وتهنئة بالنصر المسيحي ، وبعد أن يوافق خليفة المسلمين العظيم روجار على كلأوصافه للزعماء المسلمين في الجزيرة ، تلك التي وردت في رسالته وكيف أنهم جانبواطريق الخبرات واجترءوا في الطغيان ، واستعملوا الظلم، وتمادوا في الغي .
عد ذلك ينهي رسالته بأن من كانت هذه حاله حقيق بأن تكون الرحمة نائية عنه ، خليق بأن يأخذه الله من مأمنه أخذة رابية .
وهذا الكلام .. صحيح . بيد أنه لن يغفر للخليفة المنهار فيمصر المتمسح ـ كذبا ـ في شرف النبوة أن يسقط ركن من أركان دولة الإسلام ـ تابع الحكمه ـ دون أن يحرك ساكنا .. ثم يخرج علينا بشعارات منمقة لا قيمة لها .
ولن يغفر له التاريخ كذلك أنه نفسه كان لعبة هزيلة في قصره بيدالوزراء العظام، وفي ظل أحط مجاعات عرفتها مصر الإسلامية ، وإنه بدوره كان حلقة في سلسلة مصائبنا الكثيرة .
وقد زار ابن جبير الرحالة المسلم ـ صقلية ـ بعد سقوطها ـ فوصف أحوال أهلها تحت الحكم النصراني ، بما يجعلها قريبة من أحوال أهل الأندلس ، فقد ضربواعليهم إتاوة يؤدونها في فصلين من العام ، وحالوا بينهم وبين سعة الأرض ، ولا جمعة لهم يؤدونها بسبب الخطبة المحظورة عليهم ، ويصلون الأعياد بخطبة يدعون فيها للعباس، ولهم بها قاض وجامع ..
ثم يختم ابن جبير حديثه عن أحوال المسلمين في صقلية بقوله :
" وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين تحت ذمة الكفار ، ولاأمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم ولا في أبنائهم .. " .
وكان هذا جزاء ما قدم زعماؤهم الخونة ، وسادتهم الفاطميون المارقون..
والمهم :
سقطت صقلية الإسلامية !!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
سقوط المرابطين بالمغرب
بدأت دولة المرابطين بالمغرب العربية بداية طيبة قوية .. كانتهذه الدولة بحق انبثاقة فكرة إسلامية عظيمة الأثر في حياة الدعوة الإسلامية ..هذه الفكرة تقوم على إبراز دور محدد قيادي للمسجد الإسلامي ، فالمسجد ليس مجرد دارلأداء صلوات خمس مبتوتة الصلة بالحياة ، وإنما المسجد الإسلامي دار تنطلق منها قيادة البشرية وتربيتها في كل مرافق الحياة .. فهو إلى جانب كونه دار عبادة هوكذلك دار علم ، وهو دار قضاء وهو مكتبة ، وهو مجلس شورى ..
أي أن المسجد في الحقيقة نموذج لكل الوزارات والدواوين التي تقود شؤون الناس وتوجه مصالحهم ، وعلى هذا الأساس قامت فكرة الأربطة التي أنشأها المرابطون والتي من خلالها تكونت طليعة إسلامية استطاعت أن تنشئ دولة المرابطين التي حمت المغرب الإسلامي والأندلس قرابة قرن من الزمان .
ومضت فترة القوة في هذه الدولة عندما مات أكبر شخصية مرابطة هي شخصية يوسف بن تاشفين على رأس المائة الخامسة ، وبالتحديد سنة 500 من الهجرة .
وبعد يوسف ، ومع الجهود الضخمة التي بذلها خليفته وابنه علي بن يوسف بدأت دولة المرابطين تدخل طور الأفول .
وكان ذلك بتأثير سبب قوي غريب .. كان ذلك لأن علي بن يوسف هذاقد انصرف عن شؤون الحكم إلى حد كبير ، ولم يتحرك إلا في مرات قليلة لم تكن كافية لسد الثغرات التي فتحت على الدولة في المغرب والأندلس ، وراح هذا الأمير المرابطي يصوم النهار ويقوم الليل ويعكس بزهده وإهماله لشؤون دولته فهما مغلوطا للإسلام بلإنه وقع في خطأ كبير .. حين وقع تحت تأثير مجموعة كبار الفقهاء البارزين فيدولته ، وكان لا يزيد عن كونه لعبة صغيرة في أيديهم .
ونتيجة غفلة علي بن يوسف هذا ، وانصراف الفقهاء إلى تكفير الناسوجمع الثروات ، بدأت مظاهر التحلل تسود قطاعات كبيرة من الدولة .
كانت الخمر تباع علنا في الأسواق ، وكان النبيذ يشرب دون حرج ،وكانت الخنازير تمرح في الأسواق كالأغنام ، واستولى أكابر المرابطين على إقطاع اتكبيرة وذهبوا إلى الاستبداد فيها ، واستولى النساء على الأحوال " وصارت كل امرأة تشتمل على كل مفسد وشرير وقاطع سبيل وصاحب خمر وماخور " .
وكان ثمة مظهر آخر من مظاهر الفساد انتشر على عهد الخلفاء الضعافالمرابطين .. هذا المظهر هو تحجب الرجال ، حتى إن الرجل لا تبدو منه إلا عينه ،وبروز النساء وظهورهن في الأسواق العامة سافرات ، واختلاطهن بالرجال . لكن مفتاح المصائب الكبرى على المرابطين كانوا هم الفقهاء
لقد ذهبوا إلى تكفير كل من يحاول تأييد القواعد والأصول الشرعية ،لا سيما العقائد بأدلة عقلية . وقد يكونون على خطأ أو على صواب ، فلسنا نعرضلآرائهم أو لآراء غيرهم ، وإنما الذي نقصده أن نظرية التكفير هي دلالة إفلاس وتحجر، وليس من حق أحد أن يتعجل فيرمي الناس بالكفر .. إذ ليس من حق أحد أن يتعجل فيرمي الناس بالكفر .. إذ ليس الكفر مفتاحا يملكه الناس ما لم تظهر أدلتهالمادية التي لا تقبل الشك .. أما الخلاف على رأي فليس مجال تكفير.
وقد ذهب هؤلاء الفقهاء في استرسالهم التكفيري هذا إلى تكفير أعظم شخصية إسلامية أنجبها القرن الخامس والسادس الهجري .. وهي شخصية الإمام " أبيحامد الغزالي " المعروف بحجة الإسلام بل إنهم ذهبوا في غلوائهم أبعد مذهب ، فحرصاعلى امتيازاتهم التي يكتسبونها من جدلياتهم في علوم الفقه التي تمثل الفروع ..أفتوا بإحراق كتب الإمام الغزالي لا سيما كتابه الشهير " إحياء علوم الدين "وكانت حجتهم في ذلك اشتمال الكتاب على بعض المسائل الفلسفية الكلامية .. ممااضطر السلطان علي بن يوسف الخاضع لتأثيرهم إلى إصدار أمره بوجوب إحراق الكتاب "إحياء علوم الدين " في جميع أنحاء مملكته تنفيذا لفتوى الفقهاء ، ثم أنذر بالوعيدالشديد ... بل بالقتل واستلاب مال كل من يوجد عنده الكتاب !! .
وكان هذا الحادث أبرز ألوان الجمود والتحجر والخوف على الامتيازاتالشخصية التي أظهرها الفقهاء .
وقد بلغ الحنق بالإمام الغزالي مبلغه ، فدعا على علي بن يوسف بنتاشفين المرابطي أن يمزق الله ملكه .. حين علم بالأمر ! .
لقد كان منهج الفقه الذين تصدروا شؤون الدولة المرابطية يقوم على الابتعاد عن المصدرين الرئيسيين للتشريع وهما القرآن والسنة ، والتمسك الشديد بآراءالفقهاء .. حتى ولو لم يعرفوا لها سندا من الكتاب والسنة .. وقد بلغ الأمربهم في هذا الأمر مبلغه ، حتى أن أحد الناس قال لرجل وهما في الطريق : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا .. فرد عليه الآخر .. لكني أعتقد أنالإمام مالكا يقول كذا ( !! ) وهكذا ذهبت آراء الفقهاء في نظرهم مذهب التقديس والغلو المبالغ فيه .
وقد أمات الفقهاء واجب " الحسبة " .. وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلم يقوموا بتغيير نواحي التحلل التي ظهرت في الدولة ، وكانب إمكانهم لتمكنهم من الحكم أن يقوموا على تغييرها .. لكنهم جاروا العامة فيغرائزها وبحثوا عن أنفسهم ، بل قاوموا المخلصين الذين حاولوا التغيير ورموهمب التكفير والمروق .
بقي أن نقول : إن الفقيه أبا القاسم بن حمدين زعيم الفقهاء في هذهالفوضى .. وأكبر المكفرين للإمام الغزالي ، بل المكفر لكل من قرأ كتاب الإحياء كان يمثل نموذجا لكثير من الدجالين المتاجرين بالإسلام ، والإسلام منهم براء .
ومع ألسنة النار المندلعة من نسخ كتاب الإحياء التي أحرقت في مشهدعلي بجامع قرطبة ، كانت ألسنة نيران حركة التاريخ التي تقودها سنة الله التي لاتتخلف ، تأكل دولة المرابطين التي تركت أمرها لمجموعة من ضيقي الأفق ومرتزقة الكلمة، هؤلاء الذين لا يفهمون أصول الإسلام ولا روح الإسلام .. ولا أصول الحكم في الإسلام .. ولا روح الحكومة الإسلامية الحقيقية ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سقوط دولة صنهاجة فيتونس
عندما رحل الفاطميون إلى مصر سنة 360 هـ ، بعد أن أسسوا دولتهم بالمغرب العربي وعاشوا فيها أكثر من نصف قرن ، خلفوا وراءهم قبيلة بربرية كبرى تدعى صنهاجة كي تحكم المغرب العربي ( تونس والجزائر ) نيابة عنهم وباسمهم.
لقد كان انتقال الفاطميين إلى مصر وتسليمهم الأمور لهذه القبيلة البربرية الكبرى حدا فاصلا في أحداث المغرب العربي ، إذ كان إعلانا ببداية عهد يحكم فيه البربر أنفسهم ويستقلون بحكم بلادهم ، في ظل اعتراف بسلطة الدولة الفاطمية وهواعتراف من النوع الذي يمكن نقضه ، لأنه لا تساعده قوى متمركزة عسكرية، ولا ولاء جماهيري عقائدي ، وبالتالي فقد اعتبر هذا الحدث بداية عهد " حكم البربر للبربر" !! .
,قد نشأت بعد رحيل الفاطميين أول دولة بربرية كبرى في الجزائر وتونس هي " دولة الصنهاجيين " التي عرفت باسم " دولة بني زيري " نسبة إلى أولحكامها " بلكين بن زيري الصنهاجي " ، وقد نجح بلكين هذا في أن يقضي على الفتن الداخلية وعلى الثورات القبائلية المجاورة على حدود البلاد ، وحقق استقرارا كبيرا بالبلاد إلى أن مات سنة 373 هـ ( 984م ) فخلفه ابنه المنصور بن بلكين ، وكان من أعدل بني زيري ، فاستعمل السياسة والعنف معا ، ونجح في تصفية خصومه باللين والحكمة والترهيب كذلك .
وقد لمس الفاطميون النية لدى حكام بني زيري في الاستقلال ، فحاولواوضع العراقيل في وجه المنصور ، إلا أن سياسته قد امتصت محاولاتهم .
وعندما مات سنة 387 هـ خلفه ابنه باديس بن المنصور فسار على سياسة أبيه ، ونجح في تحقيق الاستقرار للدولة . حتى مات سنة 406 هجرية ( 1015م ).
لقد تولى الأمر بعد باديس أعظم ملوك بني زيري على الإطلاق " المعزبن باديس " ولقد واجه المعز بن باديس وضعين جديدين كان لهما تأثير كبير في مستقبل الدولة : أما الوضع الأول ... فهو قيام حركة انشقاق في الدولة قادها أحد أعمام أبيه ويدعى " حمادا " وكانت قد بدأت منذ عهد أبيه واستنفذت من طاقة أبيها لكثير!! وأما الوضع الثاني فهو ميول المعز نفسه ، إذا كان المعز قد تربى على يد رجال من رجالات السنة المالكية ، ونشأ محبا للمالكية والسنة . وقد حاول منذولي تغيير مذهب الدولة ، ففي سنة 407 تغاضي ، بل أوعز بطريقة غير مباشرة، بقتل عدد كبير من مخالفي السنة والجماعة في مذبحة كبيرة .
لقد كان ابن باديس واقعيا مع ظروفه وظروف دولته ، وبالتالي فقد قبل انشقاق جزء من دولته في ظل سيادته ، هذا في الجانب الأول .
وفي الجانب الثاني كان واقعيا مع ظروفه كذلك ، فتمهل في الأمور ،ولم يقم بتغيير المذهب الشيعي ، حيث كانت دولة الفاطميين في القاهرة قوية تستطيع تأليب القوى عليه من داخل بلاده وخارجها .
ولقد عاش المعز يحكم دولته في هدوء ، قريبا من خمس وثلاثين سنة ، أيإلى سنة 441 هـ .. وفي السنة الأخيرة التي كان حاكم الدولة الفاطمية فيها هوالمستنصر ، أعلن انفصاله عن دولة الفاطميين ، إذ كان المستنصر يعاني من تدهور كبيرفي الأوضاع ، وكان المعز يعيش فترة تألق شديد .
لكن الفاطميين في مصر لم يستسلموا للضربة التي سددها إليهم المعز ،وهم في الوقت نفسه ، كانوا عاجزين عن توجيه ضربة مقابلة له ، خضوعا لظروفهم التي كانت تجنح إلى التدني والسقوط والأزمات الاقتصادية الشديدة .
ولم يعدم المستنصر الفاطمي ـ أطول خلفاء الإسلام بقاء في الحكم وسيلة يضرب بها المعز .
وكانت الوسيلة التي رآها هي إطلاق القبائل العربية " الهلالية "كي تزحف على المغرب العربي ، وقد استدعى رؤساءهم وأقنعهم بمحاولة امتلاك المغرب وأرسل إلى المعز خطابا بذلك .
وكانت هذه القبائل حجازية استوطنت مصر ، وتعيش بطريقة شبه فوضوية ،وقد تقدمت نحو المغرب في أعداد كبيرة يبالغ بعض المؤرخين فيزعمون أنها تتجاوزالمليون .
لقد أتيح للمعز بن باديس فرصة ترويض هذه القبائل ولكنه لم يوفق إلى هذا النهج وكانت هذه أكبر أخطائه . وبالتالي فقد تقدمت هذه القبائل تهلك الحرث والنسل وتخرب المدن والقرى ، حتى قضت على حضارة القيروان العظيمة .
كما أن المعز لم يوفق في إعلان مواجهة حضارية في مقابل غزوة حضارية ولقد كانت وشيجة الإسلام كفيلة بترويض هذه القبائل وباستغلالها ، وبالتالي بإحباط الهدف الذي سعى إليه المستنصر ، في إيثار الجماعة والسنة .
وعندما يفشل المغزوون حضاريا في إحداث غزو حضاري مضاد ـ لا سيما وأن هذه القبائل كانت تجنح إلى ما جنح إليه المغرب العربي ـ يفقدون عنصر القدرة على البقاء .
إن الغزو الحضاري لا يقاوم بمجرد المقاومة ، بل لا بد من امتصاصه بغزو حضاري مضاد .
وهذه القاعدة قد غابت عن ذهن بني زيري في تونس ، فتهاووا وتهاوت حضارتهم، وللأسف الشديد فإن هذه القاعدة لا تزال غائبة عن ذهن كثير من المخدوعين والمهزومين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
سقوط بني حماد في الجزائر
لا يلد الانفصال إلا انفصالا ، والسير ضد سنة الله محاولة انتحارية
ومن سمات حركة التطور البشري أن الروح العامة تؤدي دورا مهما في عملية السيرالتاريخي .
فإذا كانت الروح العامة متجهة إلى الخير تسابق الناس إلى الخير ،وهكذا تقدمت حركات الإصلاح ، وهكذا استقطبت أجيالا في أيامها ، والأمر نفسه ينطبق على الشر ، ولم تمت الأمم إلا بالروح الشريرة العامة التي جعلت التحلل " مودة "والتفسخ الخلقي " فضيلة " ، والسقوط تقدمية .. وهكذا تحللت الأمة الإسلامية
في فترات تداعيها .. فمن انفصال إلى خلافات كبرى ثلاث ( عباسية ببغداد ،أموية بالأندلس ، فاطمية في مصر ) وإلى انفصال آخر في الأندلس بين ملوك الطوائف،وفي المشرق بين الشام ومصر واليمن ، وهكذا ، وفي المغرب العربي بين بني زيري فيتونس وزناتة ثم المرابطين في المغرب الأقصى ، وبني حماد في الجزائر .
ولقد كانت السنوات الأولى من القرن الخامس الهجري " الحادي عشرالميلادي " مسرحا لمعارك طويلة دارت بين بني زيري الذين يحكمون تونس ، وبني حمادالذين أحبوا تكوين إمارة مستقلة بهم في الجزائر ، بعد أن كان بنو زيري يحكمون تونس والجزائر معا .
وعبر حروب طويلة خاضها حماد مؤسس الدولة مع بني زيري في ناحية.. ومع زناتة في المغرب الأقصى من ناحية أخرى ، عبر هذه الحروب استطاع حماد بمساعدة ظروف كثيرة منها عنصر المصادفة ... أن يستقل بجزء كبير من أرض الجزائر الإسلامية وكان ذلك سنة 408 هـ ( 1016م ) حين نجح في عقد صلح مع المعزبن باديس حاكم تونس - ( 405 ـ 454م ) وأصبح الرجل الأول في الجزائر .
ولقد عاشت هذه الدولة قريبا من مائة وأربعين سنة وتعاور الحكم فيها تسعة من الملوك كان من أشهرهم حماد نفسه ( 408 ـ 419 هـ ) والقائد بن حماد(408ـ 466 هـ ) والناصر بن علناس ( 454 ـ 481 هـ ) والمنصور بن الناصر ( 481 ـ 498 هـ ) .
إلى أن وصل الحكم ليحيى بن العزيز الذي حكم ما بين ( 515 ـ 547 هـ) فكان سلوكه ومجموعة ظروف أخرى من أسباب سقوط الدولة على يد الموحدين سنة 547 هـ 1152م .
لقد كانت دولة بني حماد انفصالا من انفصال .. وسارت في طريقها فكان طريقها على امتداده زاخرا بالمشاكل ، وعلى امتداد هذا التاريخ كانت الحروب شبه دائمة بين الحماديين وقبيلة زناتة وبني زيري .
مضافا إلى ذلك أن هذه الدولة لم تكن لها أهداف محددة ، اللهم إلاهدف البقاء والسيطرة .
وكان كثير من ملوكها يمتازون بالقسوة الشديدة ، بل إن مؤسسها حمادا نفسه استعمل أسلوب الدم كي يبني دعائم دولته .
ولقد دمر مدنا وقرى أمنت لعهده ووثقت في كلماته ، وكان مكروها من جنوده ، وقد تتابع هذا النهج في كثير من أحفاده كبلقين بن محمد ، وباديس ، وبعض أيام يحيى آخر الأمراء .
لقد كان يحيى بن عبد العزيز ( آخر الأمراء الحماديين ) عابثا لاهيا ، وربما كان لهوه ومجونه هذا هو السبب المباشر لسقوط الدولة .
وأيضا من المحتمل أن بروز قوة كبرى في المغرب وهي قوة دولة الموحدين بقيادة محمد بن تومرت ثم خليفته " عبد المؤمن بن علي " يحتمل أن يكون هذا كذلك هو السبب المباشر في السقوط .. لكن مع ذلك يبقى أن كل هذا لم يكن إلا المرحلة الأخيرة في السقوط وهي تلك المرحلة التي تركبها عجلات التاريخ لتقفز بها قفزتها الأخيرة .. أما الأسباب الحقيقية لسقوط الدولة فتتلخص في سياسة الدولة الخارجية التي كانت أكبر عار في تاريخها وأكبر لطمة في وجهتها إلى نفسها .
فلقد انتهجت هذه الدولة نهجا سياسيا ذاتيا يعتمد على البحث عن النفسحتى ولو سقط العالم الإسلامي كله .
وسقطت تكريت ، وسقطت رودس ، وسقطت صقلية وعاصمتها العظيمة " بلرم"، وسقطت المهدية عاصمة أبناء عمومتهم في تونس .
سقط كل هذا فلم تتحرك عواطف زعماء هذه الدولة ، بل إنهم كانوا يعقدون معاهدات صداقة مع المسيحيين .
ولقد أثبت لهم الصليبيون صدق منطق القرآن فهاجموهم بالرغم من معاهداتهم معهم سنة 524 هـ وهاجموهم في المهدية سنة 529 هـ .
وسقطت دولة الحماديين ، لأن كلمة التاريخ التي هي جزء من سنة الله تقول
وسقطت دولة الحماديين سنة 547 هـ على يد قوة إسلامية جديدة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الموحدون ... يسقطون
إنك تستطيع أن تنتصر في معركة ، وأن تقهر عدوك وأن تحكم بالموت على مدينة بريئة ، وقد يكون ذلك انتصارا لك ويمد التاريخ في عمرك عدة سنوات !!.
لكن .. أن تصنع حضارة وأن تبني دولة تبقى .. أن تمد التاريخ بصناع مبدعين .. أن تفعل ذلك وأكثر منه ، فهناك طريق آخر .. طريق ليس "الدم " من معالمه، بل هو أبرز صخوره وعوائقه .
هذه حقيقة من حقائق الحضارة أكثر منها حقيقة من حقائق التاريخ!! .
لكن هذه الحقيقة غابت عن بناة دولة الموحدين التي قامت في المغرب والأندلس قرابة قرن ونصف القرن ( 524 ـ 668 هـ ) .
ومنذ تأسيس هذه الدولة سواء فكريا " أيديلوجيا " على يد زعيمها الروحي " محمد بن تومرت " أو زعيمها السياسي والعسكري " عبد المؤمن بن علي" وأسلوب الدم هو أبرز الأساليب التي اعتمدت عليها هذه الدولة في إرساء دعائمها.
لقد كانت دولة المرابطين هي أبرز الدول التي قامت على أنقاضها هذهالدولة الموحدية .
وقد استعمل الموحدون أقسى الوسائل الدموية في تصفية دولة المرابطين التي لم تكن أكثر من دولة مسلمة ، مهما قيل عن حكامها الأخيرين ، وقد أخذوا الناس بجرائر الحكام وقتلوا مع المحاربين والنساء والشيوخ ، وحكموا على مدنب أكملها بالموت .. هكذا فعلوا في " وهران " فقد قتل الموحدون فيها كل منوجدوهم مع المرابطين ، وعندما التجأت جماعات مرابطية على حصن من الحصون قطع الموحدون عنهم الماء فلجأ المرابطون إلى التسليم بعد ثلاثة أيام ، ومع أنهما ستسلموا فقد قتلهم الموحدون كبارا وصغارا ، وكان ذلك يوم عيد الفطر من سنة 539 هـ!! .
والشيء نفسه أو قريب منه قام به الموحدون عند استيلائهم على مدينة" مراكش"، فعندما سقطت المدينة بعد مقاومة رائعة ودفاع مستميت قتل الموحدون من أبناء المدينة من الجنود والمدنيين على حد سواء نيفا وسبعين ألف رجل ، ولم يكتفوابهذا العدد من الرجال ، بل إنهم استباحوا المدينة ثلاثة أيام فاستحر برجالها القتل الذريع هذه الأيام الثلاثة الكئيبة ، لم ينج من أهلها إلا من استطاع الاختفاء فيسرب أو غيره ، وقد قيل إنه عند الانتهاء الأيام الثلاثة وإعلان العفو عن الباقين منالأحياء من أهلها لم يظهر حيا إلا سبعون رجلا !! وباعهم الموحدون بين أسارى المشركين .
وهكذا كانت البداية الثورية العنيفة الخاطئة لدولة الموحدين التي نجحت في إنقاذ الأندلس في موقعة " الأرك " سنة 591 هجرية من التداعي وقامت على نحو ناجح بتوحيد المغرب العربي والأندلس .. ومع ذلك بقيت لعنة " الدم "وراءها لقد بقي قانون الله يطالب بالقصاص العادل ، قوانين الله أكبر من أن يحيط بهاهذا الإنسان المحدود التصور والرؤية ، لقد قضى الله بعقوبة هذه الدولة من داخلها ،لقد تحول أسلوب " الدم " إلى وسيلة داخلية قتل بها الموحدون بعضهم بعضا ..وخضعوا ـ بذلك ـ لقانون الله الذي لا يتخلف .
ولم يمر على انتصار الموحدين الخالد في موقعة الأرك أكثر من ثمانية عشر عاما حتى انتكس الموحدون نكستهم التي كانت من أسباب تحطيم الوجود الإسلامي فيالأندلس كلها ، وكان ذلك سنة 609 هجرية حين هزموا شر هزيمة في " العقاب " التيأبيدت فيها جيوش الموحدين، وسحق نفوذهم في الأندلس من جرائها ، ومنذ هذا الوقت وصرح الموحدين يتداعى تحت ضربات " الدم " وعلى امتداد خمسين سنة ( 609 ـ 668 هـ) والموحدون يقضون على أنفسهم بأيديهم في معارك أهلية داخلية .. فالمأمون "الخليفة " الموحدي العاشر ـ والرشيد " الحادي عشر " ويحيى المعتصم " التاسع" ويوسف المنتصر " الخامس " وغيرهم قد استنفدت قواهم في قتال داخلي أباد كثيرا من عناصر الموحدين بل إن جهاز الدولة ، والعناصر الثائرة فيها قد تولت هي قتل الخلفاء في الآونة الأخيرة .. فتم قتل الخليفة الموحدي " أبي محمد ، عبدالواحد الرشيد " والخليفة العادل " ، بل إن الخليفة المأمون قتل أشياخ الموحدينالذين خالفوه ، وكانوا أكثر من مائة ، فقضى بهذا الأسلوب الدموي على خلاصة الزعامة الموحدية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
وطوى اليهود .. آخر صفحاتنا المشرقة !
كان رفض السلطان العظيم " عبد الحميد " تهويد فلسطين لطمة لم ينس اليهود أن يردوها للخلافة ردا سخيا لم يكن بوسع السلطان عبدالحميد أن يتخيله!
فإلى جانب ما ذكرناه من تحريك للقوى المناوئة للدولة ، ومن غرس لبذور الفكرة العنصرية المحاربة للراية الإسلامية الموحدة لربع البشر !!
إلى جانب هذا .. هجم اليهود من الداخل على الدولة العثمانية بواسطة الأسلحة نفسها التي استعملوها في كل بلدان العالم الإسلامي، وهي أسلحة العنصرية والتحضرية، والحرية ، والإخاء ، والمساواة .. وهلم جرا من الشعارات التي اصطنعها الماسون ، وروجوا لها ، واستعملوا بعض المخدوعين لإذاعتها وتفتيت راية
الأمة وقبلتها وأهدافها !!
وكانت جماعة تركيا الفتاة ثم الاتحاد والترقي هما الأداتين اللتين سخرهما اليهود وطوعوهما لهذا الغرض . وكانت الكاتبة " خالدة أديب " إحدى المروجات على المستوى الأدبي والفكري لفكرة القومية الطورانية ، بينما كان زعماء تركيا الفتاة هم المنفذون على المستويات الأخرى لعملية إحداث الانقلاب نحو تخلي تركيا عن هويتها ورسالتها الإسلامية ..
وقد أقحم هؤلاء تركيا في الحرب العالمية الأولى دون مبرر معقول أوسبب يتعلق بها . فلما هزم الألمان ، أذعنت تركيا للهزيمة بنفسها ، وسجل رسميا سقوط الكرامة العثمانية الإسلامية بهدنة رودس في 1918م .
وقد غادر زعماء تركيا الفتاة البلاد ، فقصد أحدهم " أنور باشا "روسيا ، وقصد " طلعت باشا " ألمانيا ، ولقد شاء الله أن يقتص منهم قصاصا دنيويا عاجلا ، فلم يلبث " أنور باشا " أن قتل اغتيالا في تركستان ، وأن يصرع طلعت في برلين ، ويغتال جمال في تفليس " أما الكاتبة خالدة أديب .. التي طال بهاالعمر فترة .. فلم تلبث أن طردت شر طردة ، من تركيا بعد خلاف حاد بينها وبين الزعيم اليهودي الكبير مصطفى كمال أتاتورك !!
ولم تكد الحرب العالمية الأولى توشك على الانتهاء حتى كانت الدول الأوروبية قد أتمت المسرحية الهزلية .. لاقتسام أملاك الخلافة الإسلامية الأخيرة ، ولإبراز رجل ينفذ مخططاتهم وأطماعهم بحذافيرها .. وعلى الرغم من أنا لكتابات الاستشراقية والكتابات الصليبية واليهودية والشيوعية تجمع على إخفاء هذه الحقيقة ، فإن الأحداث بطبيعة تطورها تثبت هذه الحقيقة ، ويكاد يصرح بهذه الحقيقة المستشرق " كارل بروكلمان " على الرغم من ذكائه الحاد في تطويع الحقائق ،وبترها وإضفاء جو إنشائي حماسي عليها ، نعم ، يكاد يصرح بهذا في كتابه الشهير "تاريخ الشعوب الإسلامية ـ الدولة الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى " وهو يقول: " عند ذلك ..
هيأت الدول الحليفة لتركيا ـ لاحظ الحليفة ـ الفرصة السانحة للرجل الذي قدر له أن ينشئ تركية الحديثة ـ يقصد اليهودي الدونمي أتاتورك ـ "ولنا أن نتساءل : أي دول حليفة لتركيا تلك التي حولتها من زعيمة روحية ـ على الأقل ـ لربع البشرية إلى دولة هزيلة تعيش بلا ماض وبلا حاضر وبلا مستقبل ؟ وأيدول هذه التي ساعدت هذا اليهودي على إلغاء الحروف العربية ، وإزالة الأوقاف
،وإغلاق المساجد ، وقصر علماء الدين على ثلاثمائة واعظ في طول البلاد وعرضها ،وتحويل مسجد " أياصوفيا " الشهير إلى متحف ، ومسجد محمد الفاتح إلى مستودع ،وإلغاء الشريعة الإسلامية ، واستبدال القبعة بلباس الرأس الوطني السابق " الطربوش" وفرض اللباس الأوربي بالقوة ،وحذف اللغة العربية واللغة الفارسية من مناهج التعليم بالمرة ، وبيع الكتب والمخطوطات العربية بأبخس الأثمان ، فضلا عن التعليم العلماني الأوروبي ، ليس في المجال التقني كما يجب أن يكون ، بل ـ فقط ـ في المجال الإنساني والأدبي والديني ! .
إن إلغاء الخلافة الإسلامية وإعلان الجمهورية التركية في 29 أكتوبرسنة 1923م ، وانتخاب مصطفى كمال أتاتورك من قبل جمعية لقبت نفسها " بالجمعية الوطنية " ، إن هذا كله لم يكن يعني سقوط تركيا الإسلامية في الحقيقة ، فكم من شعارات براقة زائفة ترفع ثم لا تلبث أن تزول . لكن تمكن الأتاتوركي " الغازي" من السيطرة على البلاد ، بمساعد ( الدول الحليفة لتركيا ) كما يقول بروكلمان وأمثاله ، ثم الاجراءات الخطيرة التي ذكرناها والتي اتخذها أتاتورك بعدذلك .
هذه في الحقيقة كانت الإلغاء الحقيقي لتركيا الإسلامية وللخلافة العثمانية .
ولم يكن الخليفة العثماني محمد السادس الذي عاصر هذا الانقلاب ، كمالم يكن الخليفة الذي وضعه الانقلابيون مكانه عبد المجيد بن عبد العزيز " لم يكن هذا وذاك أكثر من تحفتين تاريخيتين .. تحملان معالم صورة هزيلة مهتزة ، لحقيقة كانت ـ يوما ما ـ عظيمة قوية ترعب أوربا كلها .
ومع ذلك فلقد أدرك مصطفى كمال الدونمي اليهودي أن البقاء الرمزي الصوري لهذه الحقيقة القوية العظيمة يشكل في حد ذاته خطرا على مخططاته الصهيونية.. ولذا فلم يكد يملك السلطة في يده ويتربع بتؤدة على عرش السيطرة لمدة خمسة أشهر ، حتى أعلن إلغاء الخلافة الإسلامية ، ثم طرد آخر خليفة للمسلمين من البلاد في اليوم الثالث من مارس سنة 1924م .
( أنتهى )